تأملات فى معانى الغربة

مشتاق الفراتي

المصريون القدماء عندما يقولون إن
شخصا ما ذهب إلى أفق الغرب فهم يعنون أنه مات .

في لغتي الأم للغربة معاني مقتبسة
من غرب وغروب ، فلكل واحدة منها معاني ودلالات ، حيث إن الدلالة الأولى هي نفسية
أما الثانية فهي جغرافية ، والاثنتان تلتقيان عند نقطة حدود الحدث أي الرحيل أو
الاغتراب أي بمثابة الموت لدى المصريين القدماء ، لعل هذا اللقاء نتج عن تجربة
يومية، فنحن نرى الشمس تشرق من الشرق وتغيب في الغرب بعد سطوع والتماع وجريان ،
ليحل الظلام بعد ذلك .

هل هذا تقديم سيء لمعنى الغربة
والتغرب ؟ لا ادري ، انني احاول ان اكون واضحا ، فقبل ان تكون لي تجارب محددة
تصنعنا الكلمات ، نحن محاطون بثقافة تلون خبراتنا بألوان وظلال لم نخترها كأفراد .
دعوني اتساءل في العودة الى التجربة: هل كنت اتوقع انني سوف اخوض تجربة الرحيل عن
بلدي والتغرب في بلد آخر؟ لا ابدا .، إن عدم الاختيار مؤكد ، عدم الاختيار يعيدني
الى اوصاف معينة في لغتي الأم تشير كلها الى الالم والحزن والخوف ، اشعر الآن انني
التقي بكلمات معينة لكي اعبر فيها عن معنى غربتي ، كلمات مثل : اقتلاع ، اجتثاث ،
ضياع ، فقدان .

كانت تجربتي في الرحيل عن بلدي
مخيفة ، لم اكن مخيّرا ، بل كنت احاول ان انجو بجلدي من تجربة موت مجاني بيد اشخاص
متعصبون سيئون ، لكن الناجون وانا منهم لا يحملون في اجسادهم هذه التجربة الحزينة
وحدها ، بل يحملون في ارواحهم تذكارات الطفولة والبيت والسعادة واللغة ايضا ، اي كل
ما يجعل من الحياة ممكنة وذات كفاية.

الان وانا في في بلاد أخرى بعد
نحو اربع سنوات من الغربة استيقظ من النوم واجدني في فراشي البغدادي، وتصل الى سمعي
اصوات غسيل صحون تأتي من المطبخ مع صوت مذياع يقدم اغان صباحية اعتادت امي ان
تسمعها وهي تحضر الفطور، للحظة اشعر بسلام طفولتي وشعوري بالاحاطة العائلية
وسعاداتها ، كل شيء جاهز ، سوف استيقظ تماما بعد قليل على كل اصوات مدينتي
المغمورة بالشمس وزقزقات العصافير وروائح الطعام . لكن ما ان افتح عيني حتى اجد
نفسي في مكان آخر، وافكر اول ما افكر بمساحة هائلة من الثلج ، وتسقط في عقلي لغة ما
ان امسك ببعض مفرداتها حتى اجدني شخصا لا يتحدث بل يترجم .

من الصباح الباكر اشعر بتعب من هذا
الاختلاط بين طفولتي النائمة وهذا الاستيقاظ على لغة لست متأكد حتى الان إن كنت
اقبض عليها بقوة وقادر على التعبير بها عن نفسي ، لغة لا تحرجني ولا افكر بها ثلاث
مرات .

الغربة هي تجربة متعبة ، فكل ما
اراه واسمعه اقوم بتسجيله واتثبت منه مرارا، انني بدلا من ان اكون تلقائيا اقوم
بتسجيل دائم ومتعب لنظر الاخرين ولغتهم وتوقعاتهم ومطالبهم . إن ذهني يعمل حال
استيقاظي من النوم على هذا النحو .

الاشياء التلقائية ، الاكثر انسانية
تضمر ، التوقع يتسع حتى انغمر به ، مثلما اغرق بالتكهنات والحسابات والرغبة في ان
اكون مفهوما ومحبوبا وسهلا وامتثاليا بطريقة تشعرني بالخجل من
نفسي.

في الايام الاولى كانت هذه الحالة
تؤدي بي الى اليأس والتقوقع على نفسي والشعور الدائم بالعزلة، انا افضل الآن ، بل
افضل بكثير نظرا لاتساع معرفتي اللغوية . فضلا عن ذلك انني كنت استدعي مسؤوليتي
وحسي الاجتماعي والانساني لمساعدة نفسي ، اتذكر ان ابي كان يردد على مسامعي حكمة
لشخص روماني قديم تقول : كل ما هو انساني ليس غريبا عني !

تجربة الغربة معقدة جدا ، بيد انني
الان اكثر كفاءة في مواجهة مشكلاتها . انني اتعلم . تأتي صباحات استيقظ فيها على
سماء مدينتي الملبدة بالغيوم بشعور من الالفة والتعود. اشرب الشاي في المطبخ وانا
اتطلع الى مطر ينهمر ويبلل العالم .